خرج الأمين العام لجمعية المصارف في لبنان فادي خلف بتصريحات مثيرة للجدل حول وضع السيولة المالية في بنوك الدولة المأزومة مالياً، إذ تكاد تلمح إلى بدء حقبة من إفلاس المصارف، ما يعيد المودعينإلى دائرة الفزع من تبخر آمال الحصول على مدخراتهم التي طال انتظارها، فيما قال خبراء مصرفيون إن ما قاله خلف لا يحمل جديداً بشأن مصير الودائع في البنوك.
"لا سيولة لدى المصارف للسداد للمودعين"... هكذا لخص أمين عام جمعية المصارف أوضاع البنوك في خطاب حمل توقيعه، جاء على هيئة مقدمة للتقرير الشهري للجمعية، قائلاً إنّ ودائع البنوك لدى مصرف لبنان المركزي بلغت ما يقارب 86.6 مليار دولار في منتصف شهر فبراير/ شباط الماضي، فيما بلغ ما عليها للبنوك المراسلة (الأجنبية التي يتعامل معها البنك المحلي لتقديم خدمات تحويل الأموال وتمويل التجارة الخارجية)، 204 ملايين دولار حتى 31 يناير/ كانون الثاني من هذا العام، مضيفاً: "هذه الأرقام تبين بما لا يقبل الشك أن لا سيولة لدى المصارف".
وزاد إعلان خلف قلق المواطنين حول ودائعهم الدولارية المحتجزة في المصارف منذ أواخر عام 2019، وخشيتهم من استمرار وضع اليد عليها، وفرض البنك المركزي تعاميم تطيح بقيمتها الحقيقية، فيما تلهب نار الأسعار جيوبهم، وقد بات الدولار اللاعب الأساسي الذي أطاح بالعملة الوطنية وفرض نفسه على السوق.
في السياق، يقول الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، لـ"العربي الجديد"، إنّ سيولة المصارف تأتي من مصدرين أساسيين، الأول هو حجم السلف التي تُعطى للقطاع الخاص، وأصبحت في أدنى مستوياتها بعدما سُدِّدت كلها تقريباً، خصوصاً بدولار الشيكات أو ما يُعرف بالدولار المحلي، والمصدر الثاني هو إيداعات المصارف لدى البنك المركزي، في حين أن هناك مصدرا ثالثا مرتبطا بسندات الدين على الحكومة وما يعرف باليوروبوند التي توقفت الدولة عن سدادها منذ مارس/ آذار 2020، الأمر الذي جعل المصارف من دون سيولة لتواجه التزامات بحجم الودائع الكبيرة التي تقدر بما بين 95 و96 مليار دولار.
ربحية المصارف وسيولتها
ويرى حمود أن المشكلة الأكبر تكمن في كيفية مواجهة البنوك مصاريفها، وإن كانت تستفيد بعض الشيء من الدولار الخارجي والفوائد عليه التي تراوح ما بين 4% و5%، وبالتالي، هناك مشكلة مزدوجة، تكمن في ربحية المصارف وسيولتها.
ويشير حمود إلى أن الوضع ليس سهلاً إطلاقاً على المصارف، ولا بد من حل للأزمة، إذ على الدولة أن تسدد مديونيتها، وعلى البنك المركزي أن يتفاهم مع المصارف لإعادة ودائعها إما بالليرة أو بالدولار الحقيقي، وللأسف كل ما يحصل اليوم لن يوصل لأي مكان، بل فقط ضياع أموال المودعين ورساميل المصارف.
لكن هناك من يرى أن الحديث عن أزمة السيولة لدى المصارف ليس بجدبد. ويقول الخبير الاقتصادي والمصرفي نسيب غبريل لـ"العربي الجديد"، إن حديث الأمين العام لجمعية المصارف لا يحتمل هذه الضجة، إذ إنّ الأزمة أصلاً هي أزمة شحّ السيولة بالعملات الأجنبية في الاقتصاد اللبناني ككلّ، وضمنه القطاع المصرفي. ويلفت غبريل إلى أنّ المصارف اللبنانية وضعت سيولة بالدولار في البنك المركزي وجُمّدت لفتراتٍ، وعندما طالبته بإرجاع جزءٍ منها لم يستطع ذلك، مشيراً إلى أنه لو كانت لدى المصارف سيولة لكانت أعطت المودعين أموالهم.
تبعاً لذلك، يرى غبريل أن الحل يكمن في إعادة ضخّ السيولة في الاقتصاد اللبناني خصوصاً من خلال القنوات الرسمية، أي القطاع المصرفي، وإعادة تدفّق رؤوس الأموال إلى لبنان من خلال استعادة الثقة المفقودة في المؤسسات العامة والاقتصاد، ويشير إلى أن هناك ودائع بالعملات الأجنبية في القطاع المصرفي تقدر بنحو 95 مليار دولار، وما يوازي 25 مليار دولار بالليرة اللبنانية، وإذا نظرنا إلى السيولة في القطاع المصرفي ككل: مصرف لبنان والمصارف التجارية، تظهر الأرقام وجود عجز بسيولة المصارف بحوالي 200 مليون دولار لدى المصارف المراسلة، بين المطلوبات والموجودات، في حين أن احتياطي مصرف لبنان بالعملات الأجنبية هو 9 مليارات و700 مليون دولار، واحتياطي الذهب 16 ملياراً و700 مليون دولار، من هنا الإشارة إلى أنه لا توجد أموال كافية لردها للمودعين، حتى لو تم استخدام كل الاحتياطي الموجود.
نظرية إفلاس المصارف
ويقول غبريل إن هناك من يدعم نظرية إفلاس المصارف بذريعة أن لا أموال كافية لردّ أموال المودعين بالاستناد إلى الأرقام المذكورة، فيما هناك من يرى أن المودعين بمجرّد أن يتأكدوا من أنهم سيستعيدون أموالهم سيتراجع الهلع، وتالياً التهافت على سحب الودائع، لكن الدولة للأسف ومنذ بداية الأزمة وحتى اليوم، لم تجب عن سؤالين أساسيين من شأنهما أن يريحا المودع، "ما هو مصير ودائع الناس؟ ومتى يستعيدونها"، في حين أن الضبابية تسيطر على المشهد.
بدورها، تقول الباحثة في القانون المالي الدولي والجرائم المالية والاقتصادية محاسن مرسل لـ"العربي الجديد"، إن هذا التصريح بشأن عدم وجود سيولة في المصارف ليس الأول الذي يصدر عن الأمين العام لجمعية المصارف.
وترى مرسل أنه من المعيب جداً أن تقرّ المصارف في لبنان بعدم امتلاكها السيولة لأنه لا يمكنها الحصول على توظيفاتها في مصرف لبنان، علماً أن هناك معايير محاسبية يجب أن تلتزم بها، بمعنى أنه يجب أن تكون هناك نسبة معينة من المخصصات موضوعة جانباً في حال حصول أي مشكلة أو أزمة أو تعثّر، حتى تكون بالتالي قادرة على تغطية طلبات المودع وأمواله، لافتة إلى أنه بجميع الأحوال على المصرف الذي لا يمتلك السيولة أن يخرج من السوق من تلقاء نفسه.
وتشير إلى أن انكشاف البنوك لدى المصارف المراسلة ليس الأول، وسبق أن أمّن لها البنك المركزي الأموال لتغطية المصارف المراسلة، وتمكنت حينها من إعادة فتح اعتمادات بالخارج، علماً أن المصارف طمعاً بالفوائد المرتفعة سحبت كل أموالها من المصارف المراسلة ووظفتها بمصرف لبنان.
أما على صعيد الدولة اللبنانية، فتلفت الباحثة في القانون المالي الدولي إلى أن الدولة مدين متعثر، علماً أنه قبل إعلانها التخلف عن سداد ديونها قبل نحو أربع سنوات، كانت المصارف تبيع سندات اليورو، بوند وكثرة التسييل أدت إلى انخفاض قيمتها في السوق، وبالتالي، فإن المصارف عقّدت المشهد على الدولة من ناحية إعادة هيكلة الدين، التي تقتضي الحصول على نسبة 75% من موافقة حاملي السندات، وهم كانوا بالمجمل المصارف والبنك المركزي، وكل السندات اليوم لا تزيد قيمتها عن 11 مليار دولار.
وترى أن الحديث عن عدم إعطاء مصرف لبنان أموالاً للمصارف "غير دقيق"، إذ هناك تحقيق يجري بمبلغ قدره 9 مليارات دولار حصلت عليه البنوك بعد 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ومن الضروري معرفة أين ذهبت هذه الأموال كلها؟!
وفي وقت سابق من مارس/ آذار الجاري، دعت مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، التي تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية وأكثر من ست دول، من بينها الولايات المتحدة وفرنسا، إلى ضرورة إقرار القوانين اللازمة لاستعادة الثقة بالنظام المصرفي بشكل عاجل، مشيرة أيضاً إلى أن الفراغ الرئاسي المستمر في البلاد يبعث على القلق البالغ، واصفة الوضع السياسي الحالي بأنه "غير مستدام".
أزمة لم يسبق لها مثيل
ويمرّ لبنان بأزمة لم يسبق لها مثيل، مع بقاء منصب الرئيس شاغراً منذ انتهاء ولاية ميشال عون في 31 أكتوبر/ تشرين الأول، وصعوبات يعانيها البرلمان لتمرير قوانين، وحكومة تصريف أعمال بصلاحيات محدودة. وتواجه البلاد انهياراً اقتصادياً متسارعاً، أفقد العملة المحلية أكثر من 98% من قيمتها منذ عام 2019.
كما قال صندوق النقد الدولي إن التقدم في تنفيذ الإصلاحات ما زال "بطيئاً للغاية"، ولم ينفذ الجزء الأكبر منها، على الرغم من خطورة الأزمة التي تُعَدّ أكثر المراحل اضطراباً في لبنان منذ الحرب الأهلية التي دارت بين عامي 1975 و1990.
Comments
Post a Comment