منذ اللحظة الأولى التي انتهت فيها الهدنة الأخيرة بين حركة حماس ودولة الاحتلال الإسرائيلي، بدأت الطائرات الإسرائيلية في ضرب مناطق متفرقة من قطاع غزة موقعة أعدادا من الشهداء والمصابين، بينما تتجهز القوات البرية للتقدم داخل شمال القطاع الذي تحاول تطويقه منذ بداية الاجتياح البري، وربما الاختراق جنوبا إلى مناطق أكثر ازدحاما، وهو ما سينقل الحرب إلى مستوى جديد.
يدفعنا هذا إلى تسليط الضوء مجددا على إستراتيجية الحرب الإسرائيلية خاصة في البر، وكيف تخطط المقاومة لمواجهتها. القاعدة الأبرز هنا أن هناك فارقا كبيرا بين اختراق مساحة ما من الأرض وبين الحفاظ عليها أو احتلالها، فالدخول إلى المدينة في أثناء الحرب سهل (نسبيا)، لكن البقاء بها معقد جدا، ومن هنا فإن تفاصيل الحرب الحضرية تخدم القسام لا الاحتلال، حيث يعرف المنظرون العسكريون أن الدفاع هو الموقف التكتيكي الأقوى في الحرب الحضرية، لأن الأمر يتطلب قوة أكبر بكثير لمهاجمة وهزيمة قوات موجودة داخل التضاريس الحضرية، لأن العديد من الهياكل المادية توفر مواقع دفاعية فورية ذات جودة عسكرية ممتازة.
نقاط القوة القسامية
هناك خمسة أنواع من مواقع المعركة الدفاعية يعرفها جنود القسام كما يعرفها كل جيش في العالم، الأول هو الموقع الأساسي، وهو موقع يقع على الطريق المرجح أن يعبره العدو القادم من بعيد، أما الموقع البديل فهو موقع دفاعي يعينه القائد لينتقل إليه الجنود عندما يصبح الموقع الأساسي غير قابل للدفاع عنه.
النوع الثالث هي المواقع التكميلية، وهي مواقع داخل منطقة العمليات توفر أفضل تمركزات ضرب النار والتضاريس الدفاعية على طول طريق آخر غير الطريق الرئيسي الذي يُتوقع أن يهجم العدو من خلاله، أما النوع الرابع فهو المواقع اللاحقة التي تتوقع الوحدة الانتقال إليها لاحقا أثناء سير المعركة.
وأخيرا يظهر النوع الخامس وهو مواقع "نقاط القوة". في التكتيكات العسكرية، تُعرف "نقطة القوة" بأنها نقطة في موقع القتال الدفاعي يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة، لكن الشرط الأساسي هو أنه لا ينبغي تجاوزها أو تجنبها بسهولة. ولذلك فمن الناحية المثالية، فإن التضاريس الدفاعية لنقطة القوة تكون عادة أكثر جودة، كما تكون محاطة بعوائق تمنع تقدم القوات المهاجمة. وفي المدن، كما يمكن أن تلاحظ، فإن ذلك موجود بكثافة.
تصب التضاريس الحضرية في مصلحة قادة كتائب القسام، حيث يمكنهم إيجاد مناطق مميزة للمواقع الخمسة السالف ذكرها، وإذا فقدت قوات القسام نقطة دفاعية قوية فإن بإمكانها أن تجد نقاط قوة تالية بسرعة، وبذلك تكون الحرب أشبه ما يكون بالتنقل من منزل إلى منزل.
وتلعب نقاط القوة دورا حاسما في الحفاظ على المواقع الدفاعية، ويكون تجاوزها صعبا، وهي على الأقل تطيل أمد المعركة وتوقع خسائر كبيرة في صفوف المهاجمين (الاحتلال)، أضف إلى ذلك أن العديد من المباني تكون مبنية عن طريق الخرسانة المسلحة بالفولاذ، مما يجعلها منيعة للعديد من الأسلحة وتكتيكات الاختراق العسكرية.
قدرة على التخفي
كل هذا ولم نتحدث بعد عن خطوط الإمداد بالنسبة للمدافعين التي يبلغ طولها صفرا تقريبا، حيث يمكن للقسام تخزين الموارد داخل غرف مغلقة قريبة من مواقع القتال، أضف إلى ذلك أن التضاريس الحضرية تقلل من قدرات المهاجمين في مجالات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، حيث لا يمكن للمسيرات مثلا اختراق الجدران لتبيان أدوات وتحركات المقاومة في مناطق بعينها وإرشاد قوات الاحتلال إليها.
وفي النهاية، يمكن للمدافع رؤية المهاجم القادم والاشتباك معه، لأن المهاجم لديه غطاء محدود، على النقيض، ورغم كل التقنيات التي تتمتع بها الجيوش الأكثر تقدما في العالم، ففي الهجوم على المدينة يمكن أن يُشكِّل عبور الشارع أحد أكبر المخاطر على حياة الجنود المُهاجمة. وهذا ما يحدث فعليا في شمال غزة، حيث يعبر جنود الاحتلال الشارع من خلال المدرعات أو الدبابات، أو ربما عبر المرور من منزل إلى منزل عن طريق تفجير الجدران وصنع فتحات بها. لكن الشوارع ليست كلها بالاتساع نفسه، وعلى الجندي في النهاية أن ينزل من مدرعته ليمر بأحد الميادين.
أضف إلى ذلك نقطة مهمة جدا في هذا السياق، فرغم أن الضربات الصاروخية المسبقة يمكن أن تفيد الجيش المهاجم عبر خفض قوة المدافعين قبل الدخول للمدينة، فإن التضاريس الحضرية المهدمة بفعل هذه الضربات تصنع عائقا أكبر أمام مُضي القوات البرية المهاجمة، فلا تمر منها بسهولة حتى مع وجود أقوى الجرافات، إلى جانب أنها توفر نقاطا غير منتظمة يمكن للقساميين الاختباء بها واصطياد جنود الاحتلال.
يأتي ذلك كله مدعوما بسلاح مهم يخلّص جنود المقاومة من قيود الجغرافيا، وهو أنفاق غزة التي تُعد وحدها إحدى أقوى الأدوات في هذه الحرب، وهي شبكة أنفاق معقدة بها عدد من فتحات الدخول والخروج، تُمثِّل أولا أداة مهمة لخرق الكماشة التي تصنعها دولة الاحتلال حول شمال غزة، وبذلك يظل إمداد جنود القسام بالعتاد ممكنا حتى مع الحصار. وبالطبع فإن الأنفاق توفر ميزة التنقل الآمن لجنود المقاومة، والأهم من ذلك كله هو أنه يمكن من خلالها مفاجأة العدو وضربه ضربة قاتلة لا تتيح له فرصة النجاة أو الهروب أو المواجهة.
مزايا القناصة
بالتوازي مع كل ذلك، تجني كتائب القسام ثمار استثماراتها في الأسلحة الخفيفة وبنادق القنص خاصة، فهي تعرف أن الصراع النهائي سيكون داخل المدينة، ومهما تقدمت التكنولوجيا فإن فرد قناصة واحدا يمكنه أن يعادل قوة كاملة إذا استخدم عتاده بشكل مناسب وقام باختيار مناطق تموضع متعددة وقوية.
في عام 2014 أعلنت كتائب القسام أنها قامت بتصنيع بندقية قنص أكدت بأنها تتمتع بمدى قاتل يصل إلى كيلومترين، أطلقت عليها اسم "غول"، وفي فيديو نشرته الكتائب ظهرت عمليات قنص ضد جنود من الجيش الإسرائيلي بهذه البندقية "غول"، وفي عام 2018، أصدرت حماس صورا لجنود إسرائيليين في مرمى قناصتها، لم يُضرب الرصاص وقتها مُطلقا، لكن الصورة كانت تهدف إلى توضيح أن جنود الاحتلال باتوا دائما في مرمى قناصة حماس.
وخلال عملية "طوفان الأقصى"، قال متحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي لوكالة الصحافة الفرنسية إن قناصة حماس أطلقوا النار على نقاط المراقبة المنتشرة على طول السياج الأمني المُخترق، يوما بعد يوم يطور جنود المقاومة من قدراتهم في هذا النطاق، لأنه ببساطة يُعَدُّ قوة ضاربة في الحروب الحضرية.
أُلفة مع التضاريس
أضف إلى ذلك نقطة أخرى مهمة وهي أن المقاومة تمتلك معرفة فائقة بالمنطقة على عكس جنود الاحتلال، هذه المعرفة تتضمن كل شيء، بداية من أصغر البوابات ووصولا إلى أماكن القفز من مبنى إلى مبنى، وبالتبعية فإن تلك المعرفة توفر لهم خاصية مهمة جدا وهي إمكانية مفاجأة العدو، ونلاحظ ذلك بوضوح في فيديوهات القسام، حيث يظهر جندي المقاومة من اللا مكان تقريبا ليضرب المدرعة أو الدبابة من الجانب، بل وعلى مسافة أصغر من مدى القاذفة، وهو أمر مؤثر جدا في فاعلية القذيفة.
بل ويصل الأمر إلى درجة تمكن جنود المقاومة من الوصول إلى الدبابة أو المدرعة مباشرة ووضع عبوة ناسفة عليها، ببساطة لأن كل مكان في المدينة هو مصدر محتمل للخطر بالنسبة لجنود الاحتلال، وهذا وحده كفيل بإصابة الكثير منهم بالرعب والارتياب، فتتحول أشياء مثل سقوط بسيط لقطعة صخر أو حفيف الشجر في جانب الطريق إلى إشارات حمراء تضيء في كل مكان.
يفسر ذلك تدمير عدد كبير نسبيا من الآليات العسكرية الإسرائيلية في غزة من قِبل قوات المقاومة، فقد وصل العدد إلى أكثر من 335 آلية من دبابة ومدرعة وجرافة قبل الهدنة، حتى إن صور الأقمار الصناعية قد رصدت تناقصا واضحا لوجود القطع العسكرية في شمال غزة مع تقدم العمليات العسكرية للاحتلال.
كمائن القسام
كل هذا ولم نتحدث بعد عن الكمائن المعدة مسبقا، حيث يقوم جنود المقاومة بتكثيف الدفاع في نقطة محددة لمنع العدو من المرور خلالها، فيضطر لتغيير خط سيره إلى نقطة أخرى قصد المقاومون توجيهه إليها، لأنها لُغِّمت بعبوات ناسفة، أو قام جنود المقاومة باتخاذ مواضع ممتازة فيها لضرب الدبابات المارة في نقاط ضعفها.
أحد أشهر الأمثلة في هذا السياق هو الكمائن التي أعدَّها الشيشانيون مسبقا في الحرب عامي 1994 و1995 حينما دخل الروس إلى غروزني، حيث اتخذ الجنود مواقع ميتة بالنسبة لقذائف الدبابات وبالتالي قاموا بتحييد قوتها، وأمطروا الجنود الروس بالنيران.
وبالمثل تمكنت كتائب القسام في أكثر من موضع من جر القوات الإسرائيلية إلى نقاط معدة مسبقا واستهداف آلياتها بالقذائف بدرجة سهولة أكبر، ومن نماذج الكمائن التي استخدمتها كتائب القسام كان تفخيخ منطقة مسبقا وتفجيرها أثناء مرور الآليات الحربية، واستدراج الجنود لمنزل مجهز مسبقا ثم إمطاره بالرصاص والصواريخ.
في النهاية، فقط تأمل الأمر، فحتى مع الفارق التقني، يجب على قوات الاحتلال المهاجِمة دخول المباني والغرف كلها بشكل منهجي للقضاء على تهديدات القسام، ولذلك فإن التكتيكات الأساسية لحرب المدن (في أي مكان) تشمل تفتيش كل غرفة على حِدَة واختراق الأبواب واستخدام تقنيات القتال من مسافة قريبة.
وفي هذا السياق، تصبح التكنولوجيا مقيدة تماما، ويجب على الجندي المتدرع بسلاحه أن يكشف نفسه في النهاية ليواجه جنديا آخر، وفي شارع لا يمكن أن تدخله الميركافا ولا تستطيع المسيرات المتقدمة مسحه بالكامل، يحصل القساميون على معركة متساوية إلى حدٍّ كبير، ويستغلونها لضرب العدو عسكريا ونفسيا.
يعرف المخططون الإستراتيجيون في حماس أن المعركة غير متكافئة، وأن العدو متقدم تكنولوجيًّا وفي عدد الجنود ولديه خطوط إمداد مستقرة، لكن جنود المقاومة لا يخوضون معركة اعتيادية، بل هي حرب غير نظامية تهدف إلى إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر، ويُعَدُّ إبطاء تقدم الاحتلال وحده انتصارا، لأنه يؤثر بشكل كبير على القرار السياسي في تل أبيب، بل ونظرة العالم أجمع للقضية، وهو أمر بات أكثر وضوحا يوما بعد يوم.
Comments
Post a Comment