يوم أقفلت المصارف أبوابها وانكفأت خلف الأبواب الموصدة بفعل فقدان السيولة، وحملة التشكيك والإتهامات والإعتداءات التي طاولتها، تعالت أصوات عاقلة تطالب وتحذّر من مغبة سقوط ليس القطاع المصرفي بما هو مؤسسات تجارية ومالية ونقدية فحسب، بل من سقوط أحد أهم وأكبر أبواب وآليات التسليف والتمويل للقطاعات الاقتصادية على اختلافها، والأفراد على تنوّع حاجاتهم بما فيها القروض السكنية، أكثر التسليفات ضرورة.
إدراك العارفين لخطورة غياب التمويل والتسليف عن الأسواق لم يأتِ من فراغ، بل من إطّلاع وثيق على الدور المحوري الذي تؤديه القروض التجارية والشخصية، في صناعة نشاط إقتصادي يعود بمردود إيجابي على النمو الوطني.
بَيد أن ما كان يحذّر منه البعض حصل، وها هي أعمال التسليف والتمويل المصرفي متوقفة على أنواعها، وما الجمود القاتل في حركة السوق العقارية إلا الدليل الحسّي الذي يؤكد حقيقة أن إقفال أبواب التسليف والقروض المصرفية أو غيرها، سيؤدي حتما إلى إقفال السبل بوجه الراغبين في تطوير استثماراتهم أو اقتناء "شقة العمر".
لطالما كان العقار في لبنان يوصف بـ"الملاذ الآمن" وكانت معظم التوصيات الاقتصادية تؤكد ذلك، ولطالما أيضا كان امتلاك بيت أو عقار تجاري أحد أكثر أحلام اللبنانيين رواجا وخصوصا الشباب منهم، لما لهما من مردود بعيد الأمد من جهة، ونسبة مقبولة من العائد الشهري من جهة أخرى.
ولكن في ظل توقف جهات أساسية عن التسليف العقاري، على خلفية الأزمة المالية وغياب التشريعات اللازمة لحماية قيمة التسليفات، فقد السوق المعين الأساسي له، وبات مشهد المباني الخالية من السكان والشقق الجديدة الفارغة، إشارة فاقعة الى حجم الجمود وضمور الحركة العقارية بيعا وشراء.
عملت المصارف والمؤسسة العامة للإسكان ومعهما مصرف الإسكان، على النهوض بسوق العقارات منذ التسعينات حتى تشرين الأول 2019 وساهمت في إنعاشه ودعم مقدراته، لكنها لاحقا تحملت بمفردها تبعات الخسائر التي تسبب بها إنهيار النقد الوطني، إذ إن معظم القروض كانت بالليرة، مع إصرار الدولة على الإبقاء على قانونية تسديد القروض الممنوحة بالدولار على سعر صرف 1507 ليرات.
ما سبق ذكره من أسباب تعثّر القطاع العقاري لم تكن بمفردها العوامل الوحيدة، بل تضافر إضراب موظفي القطاع العام، وتوقيفات قضائية في الدوائر العقارية، إلى تجميد ملفات تسجيل وإفراز ما لا يقل عن 150 ألف ملف، يعاني أصحابها الأمرّين في مستنقع الإنتظار. وّمعظم تلك الملفات تقع تحت صلاحيات الدوائر العقارية في جبل لبنان، حيث تُعتبر المحافظة الأكثر نشاطا في التطوير العقاري، وحركة البيع والشراء.
تحوّلُ لبنان إلى اقتصاد الـ "كاش" يمكنه أن يساهم في إعادة إطلاق السوق العقارية، حيث يتحرر العديد من اللبنانيين من مسؤولية حفظ أموال طائلة في منازلهم وخطر فقدانها لعوامل عدة، فيلجأون إلى الإستثمار في العقار، وكذلك يسارع الكثير من المغتربين إلى شراء شقق وبيوت لتدنّي أسعارها بعد الأزمة، وللإفادة مستقبلا من الربحية المتأتية حكماً بعد الإنفراج الموعود.
مصرف الاسكان ينتظر بدوره تحويل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي للاموال الموعودة بعدما تم توقيع الاتفاق قبل أيام من حصول حرب غزة بما أخّر تحويلها، اضافة الى وفاة أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح واقفال الدوائر الرسمية في الكويت، ويأمل رئيس مجلس ادارة مصرف الاسكان انطوان حبيب أن تنتفي الاسباب التي تؤخر تحويل اموال الصندوق الى لبنان ليباشر المصرف اعطاء القروض لطالبيها وفق الشروط التي كان قد حددها سابقا.
150 ألف معاملة تنتظر الدوائر العقارية
لم يشأ رئيس نقابة الوسطاء والإستشاريين العقاريين وليد موسى نعي القطاع العقاري، مفضلا القول إنه في غيبوبة تامة منذ 3 أشهر تاريخ بدء حرب غزة. هذه الفترة برأيه هي "أسوأ فترة مر بها القطاع في لبنان منذ 30 عاما، إذ تضافر عدد من العوامل ليزيد الامور سوءا. فاضافة الى عدم الاستقرار السياسي والامني والاقتصادي، والحرب في غزة وجنوب لبنان التي فرملت اي امكانية أو مبادرة في الاستثمار العقاري، جاءت دولرة اسعار العقارات لتزيد الطين بلة، خصوصا أن قلة من اللبنانيين لديهم القدرة على الدفع "كاش" بالدولار توازياً مع غياب القروض المصرفية لشراء العقارات أو تطويرها من المطورين العقاريين. ولا يمكن لأي قطاع عقاري في العالم أن يتحرك من دون قروض مصرفية". وقال: "صحيح أنه خلال شهر كانون الثاني الجاري، بدأنا نلمس تحسنا خجولا جدا في القطاع على خلفية تفاؤل البعض بتسوية دولية ما قد تعيد الحركة الى البلاد، ولكن هذا لا ينفي الخوف المسيطر على كل أوجه النشاطات في لبنان".
أما العامل الاهم الذي ساهم بتراجع الحركة الى ما دون الصفر، وفق موسى، فهو "اقفال الدوائر العقارية وخصوصا في جبل لبنان، حيث يوجد نحو 70 ألف معاملة تنتظر الافراج عنها، اضافة الى نحو 80 ألف معاملة تم الاتفاق عليها وتنتظر اعادة فتح الدائرة لتسجيل العقود كي تصبح رسمية (عمليات انتقال، عمليات بيع، رخص بناء جديدة)". وقدّر خسائر الدولة من جراء اقفال الدوائر العقارية بنحو 110 ملايين دولار في العام 2023.
واذا كان البعض يؤكد ان التخوف من اشتداد حدة المعارك في الجنوب وانتقالها الى منطقة الضاحية، شجع البعض على شراء شقق في مناطق آمنة نسبيا، إلا ان موسى لم يلاحظ هذه الحركة، مشيرا الى ان الامر اقتصر على عمليات استئجار لفترة زمنية محدودة.
بالنسبة الى الاسعار، يؤكد موسى انه "على رغم صعوبة المرحلة، بيد ان الاسعار لم تنخفض خصوصا في المناطق ذات القدرة الشرائية المرتفعة (الاشرفية، الرملة البيضاء، الواجهة البحرية، رأس بيروت، وسط بيروت، فقرا، فاريا وغيرها من المناطق) مع الاخذ في الاعتبار أن الاسعار كانت قد انخفضت بنسب راوحت ما بين 25 و50% مقارنة مع عام 2019. لكن هذا لا يعني أن هذا الانخفاض مستند الى عمليات بيع أنجِزت، بل الى ما يطلبه البائع من مبالغ ثمناً لعقاره".
وأشار الى اهمية انتخاب رئيس جديد للجمهورية بغية اعادة تفعيل التشريع من خلال اعادة هيكلة المصارف بغية خلق آلية مقبولة من المصارف للمباشرة بإعطاء القروض السكنية، اضافة الى اهمية وجود وزارة للاسكان لوضع خطة سكنية متكاملة للايجارات السكنية وغير السكنية مبنية على ارقام منطقية، تجنب البلاد ازمات كتلك الحاصلة حاليا حول الايجارات غير السكنية.
من جهته، يوافق الخبير في الشؤون العقارية رجا مكارم على وصف وضع القطاع العقاري بأنه في غيبوبة وجمود تامّين، "فالوضع سيىء والبلاد على كفّ عفريت، وتاليا علينا انتظار بلورة الامور ومعرفة مصير لبنان، فبمجرد الاتفاق على أي حل فإن الحركة العقارية تعود الى عافيتها بسرعة البرق"، مؤكدا أن "لا أحد يعرض عقاره بأسعار بخسة، فيما الذين يعرضون عقاراتهم للبيع غير مضطرين الى بيعها بأسعار تشكل خسائر لهم. مع الاشارة الى ان الذين ينوون الشراء يتريثون في انتظار تحسن الاوضاع، وإن دفعوا أسعارا أعلى، إذ يفضلون أن يشتروا بضمانة أفضل من ان يخاطروا بضياع اموالهم في عقار في منطقة تقع على فوهة بركان".
وإذ رأى أن عدد المتفائلين بعودة الامور الى طبيعتها قليل جدا، إلا انه أكد ان اللبنانيين "معتادون مشهد تأزم الامور ووصولها الى القعر، ومن بعدها تحدث معجزة أو تسوية ما تنتشل لبنان الى الاعلى".
Comments
Post a Comment