هذه المقالة ليست فيها أي معلومة سرية، فكل معلوماتها وأرقامها مستقاة من وثائق سعودية رسمية ومعلنة، وما سيرد في المقالة جزء من القصة وليس القصة كلها.
قبل سنوات قليلة عصفت أزمة مالية حادة بمؤسسات الرئيس سعد الحريري ليس في السعودية وحدها بل في الإمارات وتركيا أيضا، ولم تسلم مؤسسات تيار المستقبل الإعلامية والسياسية، ومنها شركة سعودي أوجيه التي طالب موظفوها في المملكة بحقوقهم بطرق غير معتادة وغير مألوفة وعلى رأسهم الموظفون الحاملون للجوازات الفرنسية.
في تلك الفترة صرّح مصدر من سعودي أوجيه لوكالة رويترز بأن الشركة لها مستحقات عند الحكومة السعودية تقدر بـ 30 مليار ريال (8 مليار دولار)، وأن عدم دفع الحكومة لتلك المستحقات هو سبب الأزمة -كان تصريحا مجتزأ أخفى الحقيقة وادعى المظلومية.
ما قالته أوجيه في رويترز تردد صداه في لبنان، وأصبح بشكل غير رسمي سببا لمشكلات مؤسسات الحريري اللبنانية، وكان بعض موظفي تيار المستقبل ومؤسساته يتحدثون مع دبلوماسيين ومسؤولين سعوديين قائلين: ادفعوا حقوق الحريري حتى يدفع لنا حقوقنا، أليس أمرا مثيرا أشعله سعد وجماعته وهو على غير الحقيقة!
مرت السنوات، واتضحت الصورة في المملكة بأحكام قضائية ووثائق رسمية لم تجد صدى في لبنان، يا للأسف وآن الأوان للتذكير بها، لأن الطرف الذي روّج للأولى تغاضى عن الحكم فيها، كان بلا شك الألة الإعلامية لسعد.
إن أزمة الحريري المالية لم تكن في المملكة وحدها، بل امتدت إلى أوجيه في الإمارات والتي خرجت من السوق هناك بصورة مأساوية، وعلى هامش تلك القصة وقع خلاف مالي معروف بين الحريري وبين الدولة الإماراتية تمت تسويته لاحقا، وأصحاب الشأن في هذا الباب أولى برواية قصة أوجيه في الإمارات وقصة الخلاف وقصة تسويته.
امتدت أزمة الحريري إلى تركيا، وهذه المرة كانت المملكة طرفا في القصة كضحية روتها القوائم المالية لشركة stc السعودية (يمتلك صندوق الاستثمارات العامة 70% من رأسمالها).
وإليكم الحكاية، فقد أقنع الحريري الشركة السعودية بالاستثمار في شركته التركية، وفي العام 2008 «استحوذت شركة stc تركيا التي تأسست لهذا الغرض على 35% من رأسمال أوجيه تيليكوم بقيمة 3.6 مليار دولار (ما يعادل 13.5 مليار سعودي بسعر الصرف في أبريل 2008)، وبسبب سوء الإدارة تدهورت الشركة وتراكمت خسائرها إلى الصفرية، وأظهرت القوائم المالية لشركة stc للعام 2020 ما نصه: «بسبب الخسائر المستمرة واستنفاد كامل رصيد الاستثمار توقفت مجموعة stc عن الاعتراف بحصتها في الخسائر الإضافية».
بالعودة إلى سعودي أوجيه، في 2017 عيّنت الحكومة السعودية -من باب العدالة- شركة عالمية محايدة (برايس ووتر هاوس) لإجراء مراجعة ترتكز على مشروعات سعودي أوجيه في المملكة وفحص وتقييم المطالبات بشأن مزاعم مستحقاتها ومبالغاتها والتي قدّرت بـ (8 مليار دولار وفق رويترز كما ذكرنا).
اتضحت الصورة بشكل جلي بخصوص «سعودي أوجيه»، ففي 20 مايو 2019 صدر صك إفلاس وتصفية أوجيه من محكمة التنفيذ في الرياض رقم 40213822. وكان المتضررون قد رفعوا دعوى يتهمون ملّاك الشركة بأنهم تعمدوا إخفاء حقيقة حالتها المالية، من تحقيق خسارتها وتراكم الديون عليها إلى مستويات عالية جدا، تجاوزت 28 ضعفا لرأس مالها البالغ 750 مليون ريال (200 مليون دولار)، ولم يعمل المٌدعى عليهم على معالجة وضع الشركة، وتصحيح الأخطاء وفقا لنظام الشركات.
يقول الصك القضائي: إن مطالبات الدائنين تقل بقليل عن 6 مليارات دولار، في حين أن الموجودات النقدية للشركة اختفت أو أخفيت، ولم يتبق سوى 22 مليون دولار و62 عقارا وأسهم وحصص في شركات مختلفة قدّرتها الشركة المدينة بنحو 3 مليارات دولار.
لكن المثير في الصك، كان نقطة لم تتطرق إليها «سعودي أوجيه» في تصريحها لرويترز، وهي أن قروضا مباشرة حصلت عليها أوجيه من وزارة المالية السعودية مقابل رهن عقارات، منها وليس كلها، قرض بتاريخ 19 نوفمبر 2013 يقدر بــ 11 مليارا و450 مليون ريال.
وبالعودة إلى حكم المحكمة التجارية في الرياض في 13 ديسمبر 2020 ورد في نص الحكم نقطتان في غاية الأهمية، الأولى: إن قيم العقارات المتوقعة لهذه الأراضي مع العقارات التي سبق الموافقة على التنفيذ عليها أقل من قيمة القرض الكبير الذي تحصلت عليه أوجيه من وزارة المالية.
الثانية وهي الأكثر أهمية: إن سعودي أوجيه وأمناء التصفية لم يقدموا دليلا واحدا معتبرا يفيد بوجود مستحقات لسعودي أوجيه لدى وزارة المالية.
إن قيام وزارة المالية بإقراض شركة ذات مسؤولية محدودة -وهو إجراء نادر عالميا- يدل على ثقة الدولة بصاحب الشركة وتقديره، وحرصها على دعم الشركات والتنمية داخل البلاد، وبالتالي ينفي أي نظرية مؤامرة ضد شركة «سعودي أوجيه» وصاحبها.
في المملكة العربية السعودية المال العام مقدس، مثل حقوق الموردين والموظفين والمقرضين -كانوا سعوديين أو غير سعوديين- وصك الإفلاس والتصفية واضح: الديون المستحقة للدولة ديون ممتازة ولا تسقط بالتقادم.
إذن من خلال لغة الأرقام يتضح أن السعودية ليست مسؤولة عن أزمات الحريري المالية، بل هو المسؤول عنها، وأعود إلى تقرير نشرته «فرانس 24» في 25 يوليو 2017 قالت فيه نصا:
- وكان الموظفون قد انتقدوا استقبال الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند لسعد الحريري ومنحه وسام الشرف الفرنسي، واعتبرت المحامية المكلفة بالدفاع عن الموظفين هذا الأمر «عار» على فرنسا: «إنه رئيس شركة غير مسؤول، وأقول ذلك بكل وضوح، وبسببه يعاني العديد من الفرنسيين من أوضاع مالية صعبة ومن مآس إنسانية»، مؤكدة أن «المجموعة السعودية أو عائلة الحريري الثرية لم تحاولا في أي وقت من الأوقات التحدث معنا أو معالجة هذه المشاكل».
- ويرى البعض أن السبب الرئيسي في هذا الانهيار يعود إلى سوء الاختيار الإستراتيجي للإدارة والتي تعاني من فساد مستشر ينخر في عظامها. ويقول إيتان (اسم مستعار لمسؤول سابق في أوجيه): «كانت لدى المجموعة كل مقومات النجاح والتربع على عرش سوق الإنشاءات في المنطقة. ولكنها كانت تعاني من سوء الإدارة على الصعيد المالي».
قد يقول قائل وما شأن الأعمال بالسياسة، وهنا الرد بأن الفشل الإداري والمالي المريع في الإمارات وفي تركيا وفي المملكة كيف يمكن أن يتحوّل إلى نجاح إداري وسياسي في لبنان؟! وقد أفلست الدولة اللبنانية وانهارت عملتها والحريري على رأس الحكومة. ومن أسباب ذلك بلا شك سوء إدارته السياسية عموما وسوء إدارته للتسوية الرئاسية خصوصا.
المشكلة المؤسفة والمؤلمة أن أوساط سعد الحريري تحمّل المملكة مسؤولية نكباته وخيباته في عالم الأعمال وفي عالم السياسة، بينما المشكلة الحقيقية وصفها أستاذنا د. رضوان السيد في أكثر من مقالة حين أمسك بعيوب الحريري السياسي (ورجل الأعمال): التفويت وسوء التقدير وسوء التدبير والتآمر على الذات وعلى الحليف. وأضيف؛ سوء اختيار فريق العمل، وإلقاء مسؤولية الفشل على الآخرين للتخندق في دور الضحية الذي يستجلب التعاطف.
المصدر: عكاظ-محمد الساعد
- Get link
- X
- Other Apps
- Get link
- X
- Other Apps
Comments
Post a Comment